بقلم : أميرة عزيزي
في مشهد يزداد تعقيداً يومًا بعد يوم، كشفت التحقيقات القضائية والرقابية في تونس عن شبكة مترابطة من شبهات الفساد المالي والإداري، تورّط فيها مسؤولون سابقون وموظفون عموميون، وأدت إلى خسائر جسيمة للدولة، تجاوزت في بعض الحالات مئات الملايين من الدنانير. وقد أحالت دائرة الاتهام لدى محكمة الاستئناف بتونس في ديسمبر الماضي الوزير السابق للشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي، والمدير العام السابق لديوان التونسيين بالخارج عبد القادر المهذبي، إلى أنظار الدائرة الجنائية المختصة بقضايا الفساد المالي، بعد ثبوت وجود قرائن تدينهم في ملفات تتعلق باستغلال النفوذ والإضرار بالإدارة.
تعيينات دبلوماسية مشبوهة:
القضية الأبرز تتعلق بعمليات تعيين الملحقين الاجتماعيين في السفارات التونسية بالخارج خلال سنوات 2017 و2018-2019، حيث تبيّن وفقًا لشكاية مرصد رقابة، وجود خروقات كبيرة شابت هذه التعيينات، تداخلت فيها المحاباة والرشوة، ما أثار تساؤلات عميقة حول نزاهة هذه التعيينات ومدى مطابقتها للتراتيب القانونية. وقد تم الاستماع للمرصد من قبل السلطات القضائية، فيما لا تزال المحاكمة جارية بعد تأجيل الجلسة الأخيرة إلى شهر ماي المقبل بطلب من محامي أحد المتهمين.
امتيازات ممنوحة دون وجه حق:
لم تقف الشبهات عند هذا الحد، فقد فتحت النيابة تحقيقًا إضافيًا إثر شكاية أخرى تقدم بها مرصد رقابة في مارس 2022 ضد شركة شحن جوي سريع، بتهمة الحصول على امتيازات دون وجه حق. الوثائق المقدمة تظهر أن موظفين عموميين بديوان الطيران المدني والمطارات، ووزارة النقل، تورطوا في تسهيل حصول هذه الشركة على حق تقديم خدمات أرضية (هاندلينغ) رغم وجود حكم قضائي يمنع ذلك. الأخطر من ذلك، هو الاشتباه في تواطؤ الإدارة العامة الحالية للديوان من خلال تجاهل الأحكام وتغطية التجاوزات بشكايات شكلية.
فساد “المذاقات” في مؤسسة التبغ:
من ناحية أخرى، فتحت السلطات بحثًا واسعًا إثر شكاية ثالثة تتعلق بـ”منظومة المذاقات” في الوكالة الوطنية للتبغ والوقيد ومصنع التبغ بالقيروان. التحقيقات كشفت عن توزيع كميات ضخمة من السجائر والمعسل بشكل غير قانوني لفائدة موظفين وأعضاء مجالس إدارة حاليين وسابقين، بل وحتى لمراقبي الدولة، وهو ما يمثل، حسب نص الشكاية، اتجارًا غير مشروع بمواد خاضعة للرقابة ومخالفة واضحة لمجلة الديوانة.
وتم دعم الشكاية بتقرير تفقد نهائي لهيئة الرقابة العامة بوزارة أملاك الدولة، أُنجز سنة 2020، ووثائق أخرى حصل عليها المرصد استنادًا إلى قانون النفاذ إلى المعلومة، كشفت كيف ساهمت هذه الامتيازات العينية غير القانونية في انهيار الوضع المالي للوكالة، حيث بلغت الخسائر المتراكمة 571 مليون دينار سنة 2018 وتجاوزت 800 مليون بنهاية 2020.
فساد ممنهج وهيكلي؟
ما يثير القلق في هذه الملفات ليس فقط حجم الأموال المهدورة، بل اتساع رقعة المتورطين، من وزراء ومدراء عامين إلى موظفين وإدارات كاملة، ما يطرح تساؤلات جديّة حول قدرة الدولة على محاربة الفساد المستشري في مؤسساتها. وتكشف المعطيات المسربة أن هناك تواطؤًا ممنهجًا في بعض الإدارات، يتجاوز الفساد الفردي إلى منظومة كاملة من المصالح المتشابكة