top of page

إعادة اكتشاف الأصول الجينية للقرطاجيين: بين التاريخ والبحث العلمي

  • Photo du rédacteur: Amira AZIZI
    Amira AZIZI
  • 30 avr.
  • 3 min de lecture

بقلم أميرة عزيزي


لطالما ارتبطت قرطاج، إحدى أكبر حضارات البحر الأبيض المتوسط القديمة، بالفينيقيين القادمين من بلاد الشام. إلا أن الدراسات الجينية الحديثة بدأت في تفكيك هذه الرواية التقليدية، حيث كشفت أن سكان قرطاج لم يكونوا امتدادا مباشرا للفينيقيين كما ورد في الأساطير القديمة، بل كانوا نتاج تفاعل بين شعوب متعددة في المنطقة. وفي هذا السياق، شكلت الأبحاث العلمية الحديثة نقطة تحول مهمة في فهم الأصول الحقيقية للقرطاجيين، مستندة إلى تحليلات الحمض النووي التي أجريت عبر عدة مواقع أثرية.


إحدى الدراسات الرائدة في هذا المجال جاءت من جامعة ستانفورد، تحت عنوان "A Genetic History of Continuity and Mobility in the Iron Age Central Mediterranean"، والتي أجراها فريق مكون من 24 باحثا من جامعات عريقة أخرى. ركزت هذه الدراسة على تحليل 30 جينوما قديما مأخوذا من مدن ساحلية قرطاجية في تونس، سردينيا، وإيطاليا الوسطى، وذلك بهدف فهم طبيعة التنقل والاستمرارية السكانية عبر العصور.

كشفت الدراسة أن سكان هذه المناطق لم يكونوا مجرد امتداد للفينيقيين، بل كانوا مزيجا من السكان المحليين (من شمال إفريقيا، سردينيا، وإيطاليا) إلى جانب أصول متنوعة من مناطق أخرى في البحر الأبيض المتوسط. هذا التداخل الجيني يعكس التفاعل الثقافي والحضاري الكبير الذي ميّز البحر المتوسط في ذلك الوقت، حيث لم تكن الهجرات مقتصرة على الفينيقيين والقرطاجيين فقط، بل كانت هناك حركة سكانية جد نشطة ساهمت في تشكيل المجتمعات القديمة بطريقة متداخلة.

في السياق نفسه، قادت جامعة هارفارد ، تحت إشراف الباحث David Reich ، دراسة امتدت ثماني سنوات بهدف فهم التركيبة الوراثية للقرطاجيين بشكل أكثر دقة. نُشرت نتائج هذه الأبحاث في مجلة Nature البريطانية، واحتلت مساحة واسعة في النقاشات العلمية، حيث تم تداولها بشكل واسع في New York Times و The Economist ، مما يعكس أهميتها العلمية.

خلافًا للاعتقاد السائد منذ أكثر من 2000 عام بأن القرطاجيين ينحدرون مباشرة من الفينيقيين في بلاد الشام، جاءت هذه الدراسة لتعيد تقييم هذه الفرضية بناءً على تحليلات الحمض النووي. ومن خلال فحص 103 بقايا بشرية ، تبين أن 3 فقط من الأفراد المدروسين كانت لديهم أصول جينية شرقية، وهو ما يشير إلى أن التأثير الفينيقي في قرطاج كان ضعيفا للغاية.


لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد؛ فقد أوضحت الدراسة أن الفينيقيين كان وجودهم أكثر وضوحًا في اليونان مقارنة بقرطاج، وهو ما يبدو منطقيا نظرا لقرب المسافة الجغرافية بين لبنان واليونان، مما أدى إلى كثافة السفر والتفاعل عبر بحر إيجه.

إحدى النتائج المهمة التي أظهرتها الدراسة هي العلاقة بين القرطاجيين والشعوب النوميدية، إذ أكدت أن النوميديين لم يكونوا مجرد جيران للقرطاجيين، بل كانت هناك زيجات بين النبلاء القرطاجيين والنوميديين ، مما ساهم في تشكيل الهوية القرطاجية عبر القرون. كما حدث في القرن السادس قبل الميلاد تحول ديموغرافي واضح، حيث تبنى القرطاجيون لغة جديدة (البونية) وتغيرت طقوس الدفن من حرق الجثث إلى الدفن في الأرض، مما يدل على حدوث تغييرات ثقافية وجينية عميقة.


من جهته، أكد الباحث التونسي في علم التاريخ بولبابة النصيري أن هذه الدراسات الجينية تدحض الأسطورة القديمة التي تفترض أن الفينيقيين هم من أسسوا قرطاج وأسهموا في عظمتها. ففي تدوينة نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، شدد النصيري على أن علماء الوراثة لم يجدوا آثارا جينية مباشرة للفينيقيين من الشرق الأوسط ضمن التركيبة الجينية لسكان المناطق الغربية والوسطى من الجمهورية القرطاجية في البحر المتوسط.

ويضيف النصيري:

*"أستطيع القول إننا نجحنا في إثبات أسطورة عليسة، ونجحنا في إثبات مشروعنا لكل العالم بأن قرطاج هي حضارة محلية، وحضارة وجدت منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد."*


كما لفت الباحث إلى أن الدراسات الحديثة أثبتت أن مدينتي سلقطة وأوتيك من أولى العواصم التاريخية والقرطاجية التي تأسست في القرن الثاني عشر قبل الميلاد. بناء على هذه النتائج، دعا كل السلط المشرفة على قطاع الآثار إلى استكمال هذا المشروع، كما طالب السلطة السياسية بإعلان مبادرة تحت عنوان "تصحيح تاريخ الجمهورية القرطاجية وتصحيح تاريخ تونس ككل".


تشير هذه الأبحاث الجينية الحديثة إلى أن قرطاج كانت مركزًا حضاريا مستقلا نشأ من تفاعل طويل بين الشعوب المحلية والمهاجرين، مما يدحض الأسطورة التي تعتبرها امتدادا للفينيقيين. هذه النتائج تدعو إلى إعادة تقييم الروايات التاريخية التقليدية التي ربطت قرطاج بفينيقيا دون دليل جيني ملموس، مما يعزز أهمية الجمع بين الدراسات الجينية والأثرية لفهم الحقائق التاريخية بشكل أكثر دقة.

bottom of page