
دار شعبان الفهري تنقش التاريخ على الحجارة، إرث يواجه خطر الإندثار
- EMIRA azizi
- 16 juil.
- 2 min de lecture
-أميرة عزيزي-
في قلب الوطن القبلي، تتربّع مدينة دار شعبان الفهري كواحدة من أبرز الحواضر التونسية التي جمعت بين الأصالة والعبقرية، وبين التراث المادي واللامادي في تناغم نادر. هذه المدينة، التي نشأت من اندماج منطقتين تاريخيتين هما دار شعبان والفهري سنة 1957، لم تكن مجرد نقطة جغرافية على خارطة ولاية نابل، بل كانت ولا تزال منبعا للإبداع الحرفي والفكري، ومهدا لحرفة فريدة تُعرف بـ"النقش على الحجر"، التي تكاد تقتصر على أبنائها دون سواهم.
فن النقش على الحجر في دار شعبان الفهري ليس مجرد صنعة، بل هو ذاكرة محفورة في الصخر، تعود جذورها إلى العصر الحفصي، وتُظهر آثارها في مئذنة جامع القصبة بالعاصمة. يُعتقد أن عائلة الشمنقي الأندلسية، التي استقرت بالمدينة في أوائل القرن الماضي، هي من أدخلت هذا الفن، قبل أن تتوارثه عائلات مثل بودن القروي، شيحة، الغضبان، والرويعي، وتطوّره عبر أجيال. من أبرز التقنيات التي ظهرت لاحقًا "التنقيلة"، وهي طريقة تعتمد على الفحم والورق الشفاف لتحديد الرسوم قبل النقش، وقد ابتكرها عمر الشمنقي، أحد أعلام الحرفة.
الحجارة تُستخرج من جبلين قريبين، وتتميّز بصلابة وهشاشة تجعلها قابلة للنقش دون أن تتفتت. وتتنوع ألوانها بين الأبيض والرمادي، وتُستخدم في تزيين المساجد، البيوت الفاخرة، والمقرات الرسمية، وقد تم تصديرها إلى دول الخليج وأوروبا، لتزيين قصور ومساجد ومبان حكومية. في أواخر القرن الماضي، شهدت الحرفة ثورة ميكانيكية بفضل نور الدين القروي، الذي أدخل آلات متطورة ساعدت الحرفيين على تسريع الإنتاج دون التفريط في الجودة.
ورغم هذا الزخم، فإن الحرفة اليوم تواجه خطر الاندثار. ارتفاع تكلفة الإنتاج، تراجع الإقبال من الشباب، وغياب الدعم الرسمي، كلها عوامل ساهمت في تراجعها. الحرفيون اليوم يشتكون من صمت المسؤولين، ومن تجاهل الدولة لهذا الإرث الذي يُعدّ فريدًا في تونس. ورغم أن النقش على المعادن تم تسجيله ضمن قائمة التراث اللامادي لليونسكو بمشاركة تونس وتسع دول عربية، فإن النقش على الحجر في دار شعبان الفهري لم يحظَ بنفس الاعتراف، ما يطرح سؤالا محوريا : ألا يستحق هذا الفن أن يُدرج ضمن التراث العالمي؟
تزداد هذه الأسئلة إلحاحا في ظل تقصير وزارة الشؤون الثقافية الذي يبرز يوما بعد يوم، خاصة في الملفات المتعلقة بحماية التراث الوطني وتسجيله عالميا. غياب المبادرة والمتابعة لا يُهددان فقط فن النقش على الحجر، بل يُسهمان بوضوح في تعجيل اندثار مكونات الهوية الثقافية التونسية. هذا الإهمال يحرم تونس من أدوات دبلوماسية ناعمة، ومن فرص تصدير إرثها الحضاري، ويُضعف حضورها في المنتديات العالمية التي باتت تراهن أكثر من أي وقت على التراث كقوة ناعمة مؤثّرة.
المدينة لم تُنجب فقط حرفيين، بل أيضا مفكرين و أدبلء وسياسيين تركوا بصمة في تاريخ تونس. من بينهم محمد البشروش، المفكر الثوري الذي وُلد سنة 1911 ودرس في جامع الزيتونة، ونادية شعبان، الأكاديمية والناشطة السياسية،الشاعر صلاح الدين داود، الخبير الإعلامي محمد الفهري شلبي، إلى جانب شخصيات مثل محمد رضا فارس، محمد ناصر عمار، ونذير بن عمو. كما يُذكر الصحابي الشيخ أحمد الفهري الأنصاري، الذي استقر بالمدينة في القرن الرابع للهجرة، وارتبط اسمه بالزاوية التي لا تزال تُزار إلى اليوم، وتُروى حوله كرامات لا تُحصى.
في ظل هذا الغنى الثقافي والتاريخي، يبقى السؤال هل ستتحرك الجهات الرسمية لحماية هذا التراث؟ هل ستُدرج حرفة النقش على الحجر ضمن قائمة اليونسكو، كما حدث مع فخار سجنان؟ أم سيبقى هذا الفن في طيّ النسيان، يُمارَس في الظل، ويُحتفى به فقط في الذاكرة الجماعية؟
دار شعبان الفهري لا تطلب مجاملة، بل اعترافا رسميا يليق بما قدّمته من إبداع، وما أنجبته من شخصيات، وما حافظت عليه من تراث. إنها مدينة تنقش التاريخ على الحجر، وتستحق أن يُنقش اسمها في سجلّات التراث العالمي.


